الجملُ فِي الشِّعرِ العَربيّ
شَكّل الجَمَل عبر تاريخ العرب، أكثر من مجرد وسيلة نقل أو رفيق صحراء؛ فقد كان رمزًا لصورة الإنسان العربي في صراعه مع البيئة، وتحمله، وصبره، وتعلقه بالترحال والحرية، لذا لم يكن من الغريب أن يحتل الجمل مكانة بارزة في الوجدان الشعري العربي، وأن يتكرر حضوره في القصائد بوصفه كائنًا محمّلاً بالمعاني والرموز، يتجاوز دوره الفيزيائي إلى فضاء التأويل والدلالة.
لقد احتفى الشعراء بالجمل في مواطن عدة، كما استعانوا به في تصوير مشاعرهم، والتعبير عن مواقفهم، وقد اختلف هذا الحضور تبعًا لتطور الشعر العربي في عصوره المختلفة، وتبعًا لتحول نظرة الإنسان العربي إلى بيئته ومكوناتها.
ويعد الاهتمام بالجمل في ثقافتنا أمرًا مندوبًا إليه شرعًا فقد قال الله عز وجل في محكم تنزيله: [أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ] (الغاشية: 17)، وقد فصل المفسرون في دقة خلقه وصبره وقوته، وكان موضع عناية في الشعر العربي قديمًا وحديثًا.
وقد قال أبو السعود في توضيح المراد في الآية الكريمة: “خُلقتْ خلقاً بديعاً معدولاً بهِ عن سُننِ خلقةِ سائرِ أنواعِ الحيواناتِ في عظمِ جثتِها وشدةِ قوتِها وعجيبِ هيأتِها اللائقةِ بتأتِّي ما يصدرُ عنها من الأفاعيل الشاقة…، وفي صبرها على الجو والعطشِ حتى إن أظماءَها لتبلغُ العشرَ فصاعداً واكتفائِها باليسيرِ ورعيها لكلِّ ما يتيسرَ من شوكٍ وشجرٍ وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائرُ البهائمِ، وفي انقيادِها مع ذلكَ للإنسانِ في الحركةِ والسكونِ والبروكِ والنهوضِ حيثُ يستعملُها في ذلكَ كيفما يشاءُ ويقتادُها بقطارِها كلُّ صغيرٍ وكبيرٍ“1.
وهي أكرم الرزق عند العرب في الجاهلية، لذلك خاطبهم بها وذكرهم بأهميتها، وبعد ذلك ازداد حضورها في كلامهم ووصفهم واعتبارهم، فصار شعراؤهم يحملون الإبل من المعاني ما يريد الشاعر أن يعبر عنه ولو عن نفسه، وسيعرض هذا المقال لأبرز المواضع التي تجلى فيها الجمل في الشعر العربي، ولأهم المعاني التي أراد الشعراء أن يوصلوها عبر وصف الجمل، ومخاطبته والحديث معه، وفق الآتي:
أ– خطاب الجمل في الشعر العربي:
ظهر الجمل مخاطَبًا في شعر العرب في مواقف عديدة، أبرزها في مقامات المحاورة، وذلك عندما يقوم الجمل بالشكوى لصاحبه مما يكلفه أو مما هو مقدمٌ عليه، ويبدو الشاعر في هذه الحال قد وصل إلى مرحلة صعبة من الجهد والإرهاق، فبدل أن يشكو هو، ويظهر الضعف من نفسه يجعل ذلك صادرًا من جمله، وهنا يتماسك الشاعر ويصبر الجمل أو ينهاه عن الشكوى، وذلك من نحو قول الشاعر يُخاطب جمله المشتكي له2:
فَإِنَّكَ لَا تَشْكُو إِلَى مُصَمّتِ | فَاصبِرْ عَلَى الحِمْلِ الثَّقِيلِ أَوْ مُتِ |
وشطره الأول مثلٌ عربيٌّ مشهور، وهو قولهم: تَشْكُو إِلَى غَيْرِ مُصَمِّتٍ، أي إلى من لا يهتمُّ بشأنك3، ومعناه أنك “لَا تَشْكُو إِلَى مصمت أَي إِلَى من يشكيك فيسكتك عَن الشكوى يضْرب لمن يستغيث إِلَى غير مغيث“4. وكأن الشاعر قد عظمت همته إلى درجة أن اشتكى له جمله من هذه الهمة التي قد أتعبتْه، فقال له: لا تشكُ إليَّ ذلك، فإني لن أغيثك من شكواك فهمتي تأبى عليَّ ذلك.
وقد يكون الجمل وسيلة خطابٍ بين العشاق، ومن ذلك ما يروى أن عزة صاحبة كثيِّرٍ “هجرت كثيِّرًا وحلفت ألا تكلمه، فلمَّا نفر الناس من منًى ولقيته فحيَّت الجمل ولم تحيه، فأنشأ يقول:
حيَّتْكَ عَزَّةُ بَعدَ النَّفرِ وانْصَرَفَتْ | فحِيَّ ويحَكَ مَنْ حيَّاكَ يَا جَمَلُ | |
لَيتَ التَّحيَّةَ كَانَتْ لِي فَأشكُرَهَا | مَكَانَ يَا جَمَلًا حُيِّيتَ يَا رَجُلُ“5 |
فالجمل في هذه المقطوعة اللطيفة أشبه ما يكون بمرسالٍ بين العاشقين أوصل بينهما التحية والسلام، وحفظ لنا قصة لطيفة جمعت بين الحياء والعفة والحب والشوق، والبر باليمين، فعزة حلفت ألا تكلم كثيِّرًا وقد رأته بعد طول شوقٍ، فعمدت إلى مخاطبة جمَلِهِ، فحيَّتِ الجَمَل وَهيَ تُريدُ صَاحِبَهُ، فانتبَهَ كثيِّرٌ، وخاطب الجمل أيضًا طالبًا منه أن يردَّ التحية وحاسدًا إيَّاه على ما ناله من عطَاء متمنّيًا أن يكون هذا العطاء له.
وقريب من ذلك ما رويَ من أنَّ “أخت شرف الدّولة بن حمدان خرجت من بلد قاصدة إلى الموصل في هودج ومعها إماؤها وخدمها، فلقيها الصّيّاد الشّاعر البلدي في بعض الطّريق، فأنشدها:
تِهْ كَيفَ شِئتَ وَسِرْ عَلَى مَهَلٍ | كُلُّ الجمَالِ عَلَيكَ يَا جَمَلُ | |
وعَليَّ ألَّا تَشتَكي كَلَلًا | مَا دامَ فوقَك هذِهِ الكلَلُ |
ألقت إليه جميع ما عليها من الحليّ والحلل، وكان ينيف على ثلاثة آلاف دينار، فلما وصلت إلى الموصل وأخبر شرف الدّولة بذلك عاتبها على فعلها، وقال: الكرم في الرّجال محمود، وفي النّساء مذموم“6.
واللفتة هنا في هذه المقطوعة في قوله: (كل الجَمَال عليك يا جمل)، وكأني بالشاعر يقول للجمل بلّغ هذا الشعور، وبلّغ هذا الغزل لمن عليك، فالحياء يمنعني، وهنا يظهر الجمل مخاطبًا حاملًا رسالة عشق من شاعر عاشق لراكبٍ معشوق، وناهيك بذلك من مكانة فلولا الشعور بأن الجمل أهلٌ لأن ينقل رسائل الحب لما كلفوه بهذه المهمات.
ب– وصف الجمل في الشعر العربي وتوظيف صفاته في الفخر:
لا يخفى أن الشعراء كثيرًا ما يوظفون أوصاف الجمل في التعبير عن المعنى الذي يريدون من التعبير عن الصبر والشجاعة وعظم الهمة، ونحو ذلك، ومن ذلك قول ذي الرمة7:
وَأَعْيَس قَدْ كَلَّفْتُهُ بُعْدَ شُقَّةٍ | تعقَّدَ منهُ أبيضاهُ وحالبهْ | |
متى يُبلني الدهر الذي يرجعُ الفتى | على بدئهِ أو تشتعبني شواعبهْ | |
ركبتُ بهِ عوصاءَ ذاتَ كريهةٍ | وَزَوْرَآء حَتَّى يَعْرِفَ الضَّيْمَ جَانِبُهْ | |
وَأَزوَرَ يمطُو في بلادٍ عريضةٍ | تعاوى به ذؤبانهُ وثعالبهْ |
والأعيس الجمل الأبيض الذي تشوبه الحمرة، والشقة السفر البعيد، والأبيضان عرقان في البطن، والحالب إذا تعقد فمن الهزال، وتشتعبني أي تجتذبني، وشواعب الدهر حدثانه يعني الموت هنا، ثم يصف أنه قطع عليه كلَّ صحراء قاحلة لا أنيس بها، تعوي فيها الذئاب.
ومن وصف الجمل في الشعر العربي قول الشاعر متغنيًا بجمله إلى درجة أنه أنساه أحبته8:
تَنَاسَى طِلاب العَامريَّةِ إِذْ نَأتْ | بِأسجَحَ مِرقَالِ الضُّحَى قَلقِ الضّفرِ | |
إذَا مَا أَحسَّتهُ الأفَاعِي تحيَّزَتْ | شُواةُ الأَفاعِي مِنْ مثلمَةٍ سمْرِ | |
تجُوبُ لَه الظَّلماءَ عَينٌ كأنَّهَا | زُجاجَةُ شربٍ غَيرُ مَلأى ولا صِفرِ |
ترسم الأبيات صورة جمالية للجَمَل من حيث القوة والجاذبية وأناقة المشية التي ألهت الناس عن همومهم، ويصوّر من تعلقوا بـالعامرية –وربما هي فتاة أو مكان محبوب– وقد تناسَوا شوقهم حين ابتعدت، بسبب انشغالهم أو انبهارهم بهذا الجمل الأسجح المِرقال، أي السلس في مشيته، السريع في سيره، ويصور الشاعر أيضاً نعاله أو قوائمه القوية كأنها سيوف مثلمة ذات قطع، وسُمر مدببة أو حديدية)، مقدماً تصويراً بلاغياً يجمع بين الرهبة والقوة، فحتى الأفاعي – وهي رموز الفتك– ترتعد من وقع قدميه، في صورة تعكس الهيبة، وفي البيت الثالث وصف دقيق لعين الجمل، ففي الليل، تقود الجملَ عينٌ لامعة في الظلام، كأنها زجاجة مشروب نصف ممتلئة، تجمع بين الشفافية والضوء، وفي وقوله: (غير ملأى ولا صفر) وصف دقيق، فالعين ليست ممتلئة حتى تُعتم، ولا فارغة تمامًا حتى لا تعكس الضوء، إنما فيها توازن يجعلها تلمع وتشع، والشاعر هنا يصل إلى ذروة فنية في الوصف، إذ يُشبّه العين بالبريق والزجاج، ويدمج بين الواقع والتشبيه البصري في صورة سريالية راقية.
ج– الجمل ومسافات الوداع:
من الموضوعات التي ظهر فيها الجَمَل في الشعر العربي كونه راحلةً يرحل عليه الأحباب فيخاطبه العشاق بالدعاء عليه أحيانًا من نحو قول مجنون دير هرقل، فقد روى الأبشيهيُّ قالَ: “حكى بعضهم قال: دخلنا إلى دير هرقل فنظرنا إلى مجنون في شباك وهو ينشد شعراً فقلنا له: أحسنت، فأومأ بيده إلى حجر يرمينا به، وقال: ألمثلي يقال أحسنت، ففررنا منه، فقال: أقسمت عليكم إلا ما رجعتم حتى أنشدكم، فإن أحسنت فقولوا: أحسنت، وإن أنا أسأت فقولوا: أسأت. فرجعنا إليه فأنشد يقول:
لـمَّا أَنَاخُوا قُبَيلَ الصُّبحِ عِيسَهُمُ | وَحمّلُوهَا وَسَارتْ بِالدُّمَى الإِبِلُ | |
ووَدَّعَتْ بِبَنَانٍ زانَهُ عَنَمٌ | نَاديتُ لَا حَملَتْ رِجْلاكَ يَا جَمَلُ | |
يَا حادِيَ العِيسِ عَرّج كي أودِّعَهُم | يا حَادِيَ العِيسِ فِي تَرحالِكَ الأَجَلُ |
… ثم شهق شهقة فإذا هو ميت رحمه تعالى“9.
فالشاعر هنا يدعو على الجمل ألا تحمل رجلاه الأحبة وأن تشلّ فيعجز عن الحركة، وكلّ ذلك لأنّه الذي يحمل الأحبة ويحكم بالفراق بين العشاق، وممن حمَّل الإبل مسؤولية الفراق الشاعر أبو الشيص فقد روى الجاحظ عن عكرمة أنه قال: “كنا جلوساً عند ابن عباس وابن عمر فطار غراب يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال ابن العباس: لا خير ولا شر، والذي حضرنا من الشعر في مثله لأبي الشيص:
مَا فَرَّقَ الأَحبَابَ بَعـ | ـدَ الله إلَّا الإِبِلُ | |
والنّاسُ يَلْحُونَ غُرا | ـبَ الْبَيْنَ لمَّا جَهلُوا | |
وَمَا غُرابُ الْبَيْنِ إِلْـ | ـلَا نَاقَةٌ أَو جَمَلُ | |
ولا إذَا صَاحَ غُرَا | ـبٌ في الدِّيارِ ارتحَلُوا10 |
فالشاعر هنا يقلب المفاهيم المجتمعية، فالناس تتشاءم بغراب البين في فراق الأحبة، أما الشاعر هنا فينطلق من الواقع، ويعبر عن أن الأحق بأن يُلحى ليس الغراب بل الإبل؛ لأنها على الحقيقة هي التي تفرق الأحباب فهم يرتحلون عليها لا على الغراب.
– الخلاصة:
بعد هذه العجالة في الوقوف على أهم مظاهر بروز الجمل في الشعر العربي يمكن تسجيل النتائج الآتية:
1- برز الجمل مرسالًا بين العشاق، يحمل رسالة الحب من شاعر عَدَل عن مخاطبة محبوبته إلى مخاطبة الجمل، ومن محبوبة خاطبت الجمل بدلًا من خطاب الشاعر.
2- بين المقال أن ذلك ناتج عن علاقة خاصة بين الشاعر والجمل، فلولا أن الشاعر يشعر أن الجمل يشعر به لما حمّله رسالة العشق.
3- برز الجمل بمظهر الموصوف الذي أخذ حيزًا مهماً من القصيدة الطويلة، وكان الشاعر يُحمّله من الأوصاف ما يُستدلُّ بها على شجاعته وصبره وجلده.
4- برز الجمل شاكيًا أعباء صاحبه، وتبيّن أن ذلك من باب المبالغة التي يريدها الشاعر في التعبير عن المعنى، فالجمل الذي يعرف بالصبر يشكو من صبر صاحبه وجلده، وغالبًا كان الشاعر لا يرد على شكوى جمله، وذلك لأنه يريد أن يظهر قوته وجلده وصبره، فالجمل الصبور شكا وهو لم يتعب.
– الحواشي:
- إرشاد العقل السليم إلى مزايا ال